ما بعد “الأبارتيد”… ماذا يعني للعالم؟
وليد محمود عبد الناصر
يحتفل شعب جنوب أفريقيا، وشعوب أفريقيا جميعاً، بل والكثير من قوى الحرية والتقدم والسلام في مختلف أرجاء العالم، بمرور ربع قرن على تصفية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذي عرف لعقود باسم “الأبارتيد”، إذ شهد عام 1994 أول انتخابات ديموقراطية غير قائمة على أسس عنصرية في ذلك البلد الهام على مستوى القارة السمراء والعالم بأسره، أدت إلى انتصار ساحق للزعيم التاريخي الراحل نيلسون مانديلا وحزبه “المؤتمر الوطني الأفريقي” وانتقال الحكم والسلطة بشكل سلمي إلى حكم الغالبية من الأفارقة من سكان البلد الأصليين بعد سيطرة طويلة للأقلية البيضاء، وبناء أواصر احترام التعددية العرقية والثقافية والسياسية في هذا البلد ذي التاريخ المؤثر في تاريخ أفريقيا والعالم.
بعد مرور ربع قرن على تفكيك أوصال واحد من أكثر النظم عنصرية التي عرفتها البشرية في تاريخها الحديث والمعاصر، بل وربما على مدار تاريخها بأكمله واقتلاع جذوره، يمكننا القول أن الوقت الذي مر، يسمح لنا اليوم برؤية ذلك النظام بشكل أكثر عمقاً وعبر رؤية أوسع شمولاً ومقاربة أشد وعياً بالمعطيات المختلفة ذات الصلة والتأثير، وبعضها كان لا زال خفياً علينا حتى لحظة سقوط نظام “الأبارتيد”، بل وربما لسنوات بعدها، وباتت معروفة وواضحة للعيان الآن، مما يعني أن النظر إلى دلالات إنهاء نظام “الأبارتيد” اليوم، هو بالتأكيد أكثر إدراكاً لأهمية هذه النهاية على صعيد البشرية جمعاء مما كان عليه الحال في عام 1994.
بدايةً، يتعين القول أن مجرد القضاء على نظام “الأبارتيد” كان بمثابة إنهاء “وصمة عار” و”سبة” على جبين الإنسانية، كانت تؤرق الضمير البشري وتمثل بقعة سوداء على ثوب التقدم الذي حققته الإنسانية على مدار تاريخها الطويل بشكل عام، وفي الأزمنة الحديثة والمعاصرة على وجه الخصوص، وكان ذلك النظام مثار قلق للبشر يسعون إلى إعلان براءتهم منه، حتى الذين ربطتهم دوائر مصالح، اقتصادية أو غيرها، أو جمعتهم قناعات، أيديولوجية أو غيرها، مع نظام “الأبارتيد”، سعوا، على الأقل في العلن، إلى الابتعاد من ذلك النظام والاحتفاظ بمسافة منه، لئلا يلطخوا أيديهم ولا سمعتهم من خلال ربطهم بهذا النظام المنقطع الصلة بالإنسانية، حتى وإن تواصلوا معه وساندوه ودعموه سراً في ذلك الوقت.
ولم يكن “الأبارتيد” مجرد نظام سياسي أو اقتصادي أو قانوني أو اجتماعي أو ثقافي فقط، بل كان كل ذلك معاً، أي أنه كان حالاً شمولية النموذج، ولكنه كان بالتأكيد الحال الأكثر ظلامية وسواداً من هذه “الشمولية”، والتي سعى أصحابها إلى أن يصيغوا لها مبررات ومسوغات عقائدية وفكرية وثقافية تحاول أن تحيطها بهالة من القداسة، عبر اختلاق أساطير ومحاولة الترويج لها وتسويقها باعتبارها حقائق تاريخية، وتسعى إلى أن تمنحها نوعاً من المشروعية، على الأقل من وجهة نظر الأتباع والأنصار. وحاول هذا النظام تقنين الفصل العنصري وممارسة التمييز بشكل ممنهج ومستمر ومنظم على أساس اعتبارات اللون والعرق، وجسد هذه القناعات بتميز وتفوق لون وعرق من خلال إيجاد إطار ثقافي داعم، ويناء نظام سياسي يكرس ويعظم هذه الصيغة، وشبكة مصالح اقتصادية تزيد من ثروات الأقلية البيضاء بينما تزيد من إفقار الغالبية الأفريقية بشكل متواصل، ثم من خلال نظام قانوني يحول ذلك الوضع “الشاذ” إلى “حالة طبيعية” أو الادعاء بذلك، ويجمع ذلك كله في مجتمع لا يوجد حد أدنى مشترك يجمع ما بين فئاته ومكوناته طوائفه، بل كل طائفة تعادي الأخرى وتتربص بها ولا ترى فيها شركاء في الوطن الواحد، حيث ولدت وتطورت فكرة الـ “بانتوستانات” أي المعازل البشرية لأصحاب لون أو عرق واحد، وكأنهم في “حديقة حيوان” مفتوحة وليس كبشر على الإطلاق، حتى لو من الدرجة الثانية أو الثالثة أو حتى الرابعة.
من جهة ثانية، جاء إسقاط نظام “الأبارتيد” ليقودنا إلى نموذج هام لدولة وشعب يقرران التخلي طواعية عن الخيار العسكري النووي، بعد انتخاب “نيلسون مانديلا” رئيساً للبلاد وتوليه مهام منصبه ونتيجة قناعة وطنية راسخة لها بعدها الإنساني العالمي وبعد حوار فعال وبناء بين مختلف القوى الفكرية والاجتماعية والسياسية في البلاد في زمن “جنوب أفريقيا” الجديدة الديموقراطية المتعددة الأعراق. إذ طورت جنوب أفريقيا في عهد “الأبارتيد” قدرات نووية عسكرية متقدمة، تحقق بعضها بفضل تواطؤ حكومات ومؤسسات غربية وتعاونها، على رغم من الحظر المفروض آنذاك من قبل مجلس الأمن على التعاون العسكري، وكذلك العديد من أوجه التعاون العلمي والتكنولوجي ذي الاستخدامات العسكرية المحتملة، مع حكومة بريتوريا العنصرية في ذلك الوقت. واختارت القيادة الجديدة في عام 1994 طواعية أن تعلن تخليها عن الخيار العسكري النووي لتضرب مثلاً على صعيد العلاقات الدولية والنظام الإقليمي الأفريقي في هذا المضمار. وكان هذا الإعلان من جانب واحد من جانب النظام الجديد في بريتوريا بمثابة إعلان طلاق بائن مع نظام “الأبارتيد” ومنطقه وخياراته ومؤسساته وممارساته، مع الاحتفاظ لشعب جنوب أفريقيا الموحد بالحق في الاستفادة من عوائد البحث العلمي والتطور التكنولوجي لبلاده في المجالات السلمية من اقتصاد وكهرباء وطاقة وخدمات صحية ومجالات أخرى عديدة يتيحها التقدم النووي ذي التوجهات والأغراض السلمية. كما أن هذا التحرك المبكر مهد الطريق لتلعب جنوب أفريقيا في ثوبها الجديد، منذ عام 1994 دوراً هاماً وفعالاً ضمن مصاف الدول المؤثرة في صياغة وبلورة مبادرات في مختلف الجوانب المتعلقة بموضوعات نزع السلاح، ليس فقط على صعيد جنوب القارة الأفريقية، أو حتى على مستوى القارة ككل، بل على الأصعدة الأقاليمية والعالمية أيضاً.
أما التطور الآخر الذي حدث في أعقاب سقوط نظام “الأبارتيد”، وكانت له دلالات هامة على ساحة العمل الإقليمي، فهو التحول الجذري في وضعية جنوب أفريقيا وعلاقتها ببقية بلدان القارة السمراء وشعوبها. فبعدما كانت جنوب أفريقيا في ظل “الأبارتيد” العدو رقم واحد لبقية بلدان وشعوب القارة كما كانت تمثل الخطر الأول على أمن وسلامة شعوب القارة السمراء وحياتها والعائق الأكبر أمام نجاح نضالها من أجل التحرر والتنمية والتقدم والتحديث، بين عشية وضحاها تغير هذا الوضع تماماً وانقلب الحال رأساً على عقب، وصارت جنوب أفريقيا جزءًا لا يتجزأ من الجسد الأفريقي تعاني همومه وتعايش قضاياه وترفع راية أهدافه وطموحاته، وأصبحت دولة أفريقية كبرى تسعى لبناء شراكات في المجالات المختلفة مع غيرها من الدول الافريقية، سواء بشكل ثنائي أو جماعي، خاصة على الصعيد شبه الإقليمي في جنوب القارة وشرقها، كما شكلت رصيداً يضيف لمقومات القوة الأفريقية ولا يخصم منها، وفي ذات الوقت تطور الدور الإقليمي والدولي لجنوب أفريقيا الجديدة، خاصة ما يتعلق بأخذ زمام المبادرة والتصدي للعب دور رائد وقيادي في أنشطة الوساطة لتسوية النزاعات والصراعات وكذلك عمليات حفظ السلام في مختلف أرجاء القارة، وليس فقط في جنوبها، بل صارت أحياناً تلعب ذلك الدور في ما يتخطى حدود أفريقيا بأسرها. وعلى الصعيد العالمي أيضاً، نجحت الدولة الجديدة في الدخول ضمن تجمع “بريكس” الذي يضم أيضاً روسيا والصين والهند والبرازيل، وصارت لها مكانتها، كدولة أفريقية، في النظام الاقتصادي العالمي والمؤسسات المؤثرة في المجالات المختلفة ذات الصلة من نقد وتمويل وتجارة وغير ذلك.
يبقى الأمر الأكثر دلالة لذكرى مرور ربع قرن على سقوط نظام “الأبارتيد”، تلك القيمة المعنوية المتعلقة بنجاح البشرية في التخلص من “داء” و”مرض عضال” ألم بها ككل، وليس بشعب جنوب أفريقيا وحده أو شعوب القارة السمراء وحدها، على مدار عقود عديدة، وشعورها بأنه على الأقل تم الشفاء منه كلياً عبر استئصاله، مع الإقرار باستمرار وجود صور أخرى عديدة ومتنوعة للتمييز لا تزال موجودة في عالمنا بأشكال ليست بالقليلة وفي قوالب مختلفة ولا تزال بالتالي في حاجة إلى معالجات ومواجهات تختلف مبين حالة وأخرى.
تمثل قصة النجاح في القضاء على نظام “الأبارتيد” في جنوب أفريقيا في عام 1994 حافزاً إيجابياً ومشجعاً لكل من يرغب في التعامل بحس إنساني حقيقي مع الحالات المتبقية من التمييز أو العنصرية في عالمنا اليوم.