صبري رسول
تُعَدّ منطقة الشرق الأوسط ومنها سوريا ضمن أسوأ المناطق التي يمكن أن تعيش فيها المرأة في العالم من حيث توفّر الحقوق والمشاركة والمساواة بين الجنسين، في محيطٍ مصحوبٍ بالمشاحنات والصّراعات المسلحة، قد يكون من المُنجَزات المستحيلة أن نجد المرأة تكسّر صورتها الضعيفة لتشقّ طريقاً خاصة بها.
هناك أسوارٌ قوية تمنع الأمنيات الفردية والجماعية من التحوّل إلى مشاريع تنموية قابلة للتحقيق، ليس غياب الإرادة القوية والرؤية السليمة أوّلها.
مع انفجار الإرادة الشّعبية المكبوتة في «تابوهات» الاستبداد الذكوري تزامناً ونتيجةً للثورة السّورية «المُختَطفة» بدأت المرأة تنفض عن نفسها صفاتٍ رسختْها ثقافةُ الاستلاب، والمفاهيم المترسّبة في وجدان المجتمع خلال مسيرة طويلة، وتطرحُ رؤية أكثر بلاغة وقوة من الخطابات الإنشائية المُلقى في مناسبات نسوية تتحايل بمعانيها على عواطفها، يُتقِنُ صياغتها كتّابٌ السّلطة.
وحدَه العمل النّسائي في الميدان يمزّق الصّورة النّمطية المحاطة بإطارٍ تراثيٍّ، معلّقةً في جدار الذّاكرة. فالرّجل لن يقبل بـ«النزال» مع المرأة في الميادين إذا لم تطرح نفسها كلاعبةٍ تنافسه في كلّ زاوية، ولن يكتمل مشهد الحياة من دونها، كما يبقى دفء السّرير ناقصاً بغيابها.
نقشَت ثقافةُ المجتمع المُستَلَبة صورةَ المرأة على سطح ذاكرة الزّمن ضعيفةً، تابعةً، لاتملك إرادة اتّخاذ القرار. فبدءاً من صورة النّساء المصاحبات للأمراء والسّلاطين في ليالي السّهر ومروراً بالإعلانات التّجارية كفراشات ناعمة تفضُّ بكارةَ السّلعة لتعيدَها ثانية إلى المستهلك عذراء، كما تفضُّ عذريتَها النظرةُ الاستهلاكية
للمجتمع الذكوري وانتهاءً بصورتها في المناهج الدّراسية، وفي التّاريخ المُتخيّل والصّراع القائم عليها في القصص والمرويات. يندهشُ المرءُ لجسدها البضّ المتماهي مع السّلعة؛ تلك مكيدةُ التّاجر مع مكيدة الجسد لخلق جاذبية لدى الطرائد «المستهلكين».
ثمّة عوامل قوية أنتجت هذه الصّورة العصية على المسح:
أولاً: التعليم والمجتمع: قد يكون هذا العامل من التّحديات الكبرى التي تواجه كسر الصّورة النّمطية، فلم تشهد الحياةُ عمليةَ تغييرٍ في واقع المرأة العربية والسورية عامة والكردية خاصة، كي تتغيّر تلك الصّورةالمُصَاغة من نظرة الفرد إلى الأنثى منذ أيام التّعليم الأولى، وفصل الإناث عن الذكور على أساس «الجندرة» وتشكيل الرّؤية عن تلك الأنثى في المناهج التّعليمية الابتدائية كتوزيع المهام التي ستصاحب الرّجل والمرأة طوال الحياة ((بابا يقرأ الصحيفة، وماما تغسل وتكوي)). وقد ارتبط واقع المرأة إلى حدٍّ كبير بهذه الصّورة «تغسل وتكوي» واكتمل رسمُها في ذهنية المجتمع ورسّختها وسائل الإعلام وما يُطرح فيها من برامج تحطُّ من قدرتها، وكأنّ القدرات العقلية لهما قد توزّعت بناء على تقسيم العمل بينهما في ذلك الكتاب «القراءة والغسيل». وهذه النّظرة تُصبحُ جزءاً من الثّقافة الشّعبية، وتأخذُ شيئاً من القداسة مع الزّمن، فتفكير
المجتمع قد يغرس حتى في ذهن النّساء أنّهن مخلوقات ضعيفة ولا يحميها غير الرجل، وتتحوّل الصّورة من الثقافة إلى سلوك مُمارَس، وتدفع المرأةَ نفسهَا إلى الوقوف ضد انعتاقها من هذه الذّهنية.
ثانياً: العامل الثّاني عدم استغلال الوسائل الإعلامية وخاصة وسائل التّواصل الاجتماعي: حيث لم تجرِ الاستفادة من الإعلام عامة، ووسائل التواصل الاجتماعي خاصةً لطرح قضايا أساسية للمرأة كالحريات والحقوق ودورها في بناء مشاريع تنموية للمجتمع، ومشاركتها في صنع القرار، ويتمّ الاكتفاء بقضايا ثانوية
عنها تتعلق بفنيات المطبخ وصالونات التّجميل والأزياء والعناية بالأسرة والأطفال كأقصى حدود رغباتها وطموحاتها. فتلعب هذه الوسائل دوراً كبيراً في تثبيت الصّورة النّمطية عن المرأة.
ثالثاً: قوة تأثير التيارات الدينية المتشدّدة: التي لا ترى المرأة سوى عورة، وتعطّل دورها وتأثيرها في الحياة، بوصفها كائنات تتبع الرّجل كظلّه، وتصدر تلك التّيارات أحكاماً قاسية بحقّها. ويبقى تأثيرها على واقع المرأة طرداً مع تأثيرها على المجتمع، إذ تلتزم أخيراً بالحدود التي يرسمها لها المجتمع، وتتحوّل مع الزّمن قناعة فلا تتخطاها.لا يمكن للنّساء تجاوز الصّورة النّمطية المُتشكّلة لدى المجتمع وقد أصبحت جزءاً من ثقافته بفعل عوامل كثيرة أسهمَت في تشكيلها وتثبيتها، إلا بتغيير تلك العوامل. إنّ الصّورة الطّاغية في أذهان النّاس عن المرأة وفي ثقافتهم وفي معظم وسائل الإعلام مازالت تنمّ عن ضعفها وعدم قدرتها على المساهمة في الشّأن العام، فهي صورة سلبية.
وعلى الرغم أنّ المرأة أصبحت جزءاً من برامج إعلامية كثيرة في الإذاعات والقنوات الفضائية والمواقع الالكترونية وبطرق عديدة إلا أنها لا تخرج عن الشّكل النمطي لها، وتبقى أسيرة الصّورة السّائدة، وغالباً تجعل منها جزءاً من السّلعة التّجارية.
كل أنواع الوسائل الإعلامية تساهم بترسيخ صورتها النّمطية عن طريق نشر المفهوم السّلبي عن دورها وتابعيتها سواء في أذهان الرجال الذين نهلوا من ثقافة «الرجل أقوى» أو في أذهان النّساء اللواتي يعتقدن
بصحة تلك الثقافة ويستسلمن إلى السكون وقبول الأمر الواقع كنساء تابعات. وتكرارُ طرح الصّورة النمطية لها يخلق الانتاجَ نفسَه وبشكل أكثر سلبية.
وقد يندر أن نجدَ في الإعلام العربي أو الكردي صورةً للمرأة التي تجمع بين وظيفتها كأم، وطموحها كإنسان، علماً أنّ هناك نساء كثيراتٍ كسرنَ زجاج الخوف وخلعنَ عباءة التبعية للرّجل وإن كانت نسبتهن قليلة مقارنة بالمرأة النّمطية، ومعظم البرامج الإعلامية تستضيف الرجل ليحكي عن هموم المرأة، وتُغيّبها، وتغيب
عن المتلقي معرفةُ التحديات التي تواجه المرأة وتشعر بها. فما يتمّ استعراضه من قبل الرجال في الإعلام ليس سوى رؤية أحادية للمسألة، ويكون ذلك بعيداً عن الموضوعية.
ومنذ بداية عام 2012 انبثقت عشرات المنظمات والجمعيات والاتحادات والشبكات النسوية في سوريا، وكأنّ الثورة السورية كسّرت القمقم، منها «شبكة الصحافيات السوريات»، ومبادرة «شابات سوريات» بغية إشراك النساء في المناصب الحكومية، ومبادرة «لاجئات لا سبايا» لمناصرة قضايا النساء اللاجئات وكشف الانتهاكات الممارسة ضدهن في دول اللجوء، وشبكة «أنا هي» التي انبثقت عن حلقة سلام
عنتاب، و«اتحاد نساء كردستان» في الجزيرة وانخراط عشرات النّساء في المنظمات والجمعيات والمراكز النسائية والإعلامية للوقوف مع المجلس الوطني الكردي ضمن الائتلاف، وغيرها. وقد يكونُ المؤتمرُ التّأسيسي للحركة السياسية النسوية السورية في باريس 22-24 تشرين الأول 2017آخرَ جهدٍ لهنّ قبل هذا التّاريخ.
حاولت المرأةُ من خلال تلك المؤسسات رغم حداثة تجربتها إثبات شخصيتها وقدرتها في مواجهة التحديات والمشاركة في الشّأن العام وفي مراكز صنع القرار.اشتركت عشرات النّساء بجسارة في مظاهراتٍ تناشد الحرية والكرامة في شوارع المدن السّورية، واجهْنَ آلة النّظام في معتقلاتٍ، أخفُّ ساعة عليهن فيها هي وجبة التّعذيب، عشراتُ نساءٍ أخريات لمْلمنَ جراحَهن، وضعن ذكرياتهن في صررٍ، حملنَ أطفالهن، زحفنَ إلى بلادٍ أخرى متجاوزاتٍ أسلاك الحدود المُرعبة. عشراتٌ أخرى حطمْنَ ضروب الأسيجة الاجتماعية والعشائرية، وأسّسنَ جميعاتٍ واتحادات ومنظمات للبدء ببناء جديدٍ فكرياً وسياسياً وتنظيمياً، أضفْنَ على الحياة المهشّمة تحت جنازر الدبابات بارقاتِ أملٍ ذهبية. عشراتٌ حملْنَ الكاميرا والقلم نقلْنَ صورَ المعاناة إلى أصقاع جهات الرّيح، مناشداتٍ الضّمير الإنساني
لإنقاذ أشلاء بلادهن. عشراتٌ منهن تطوعْنَ في مراكز صحية ميدانية وفي مخيمات اللّجوء لتخفيف الألم عن الجرحى أو المرضى بعد إن جارت عليهن الزّمن. عشراتٌ حملنَ البندقية حاربْنَ هنا وهناك.
لكن كلّ هذه المحاولات تبقى محدودة أمام «التابوهات» التي تؤطّر صورتها النّمطية، كإطار يحيط بصورةٍ ما معلقة في جدارٍ المجتمع؛ والحرّاسُ الأقوياءُ على صورتها ينتمون إلى أعرافٍ اجتماعية ومفاهيم خاطئة، تشجّعُهم في مهامهم الأوهامُ المتوارثة من قدسية قيمٍ قديمة، وبعض القوانين الحامية لتلك القيم.
أيمكن أنْ تستسلم المرأة لقفصٍ وهميّ صنعَه لها الرّجلُ مذ حلّت العورةُ في صوتِها، وفي جيدها ومشيتها. وأن تستسلمَ لمزاج الرّجل في المطبخ. هل عشقَتْ أصابعُها التطريزَ، واستعارَت «صبرَ أيوب» في تربية الأطفال.
أتستمرّ في فضّ ظلم السنين لتنافس الرجلَ في المبادرات الخلاقة في السّياسة والاقتصاد والإدارة، وتحتلّ مواقع متقدمة في مراكز صنع القرار أم سيخنقُها الخنوع وتصدُّها قوى المجتمع بعد تكلُّسِ فكرِه وعجزه عن تجديد نفسه؟
وقد تراهنُ المرأة على الثّورة السّورية لتمزّق مفاهيم عن الأنثى باتت من «التابوهات» واكتسبت مع الزمن عباءة القداسة. وبات الخروجُ عليها تمرّداً.
———————–