ثقافة التسامح
د. ناهد الخراشي
لا شك أن التغيير الحقيقي يبدأ من خلال تغيير طرق التفكير للدخول في عصر نهضة جديدة والأخذ بأخلاقيات التقدم، وتنمية العقل التي تقود الإنسان إلي تحقيق قوة الفكر الذي يساعده في حياته ويؤثر علي ذاته وصحته التفسية وسلوكياته، فأي شيء يفكر فيه الإنسان يصبح اتجاهاً للعقل مما يؤثر علي الإدراك والوعي فيقوم بفعل الآتي:
*الانتباه للمعلومة والفكرة والتعرف عليها
*تحليل الفكرة ومقارنتها بأفكار أخري مشابهة
*إلغاء أي أفكار أخري لا تمت للفكرة بصلة
ولتحقيق عجلة التقدم لا بد من تحقيق السلام، ولن يتحقق السلام إلا بنشر التسامح ومعرفة قيمته والعمل علي نشر ثقافته
وثقافة التسامح هي التي تضبط علاقة الإنسان بعقائده وأفكاره، بحيث لا تصل إلى مستوي التعصب الأعمى الذي يقود صاحبه إلى القتل وممارسة التدمير باسم القيم. فإن التسامح اليوم ليس محورا من محاور المدينة الفاضلة، ولكنه أصبح ضرورة إنسانية واجتماعية وسياسية وثقافية، حتى يستطيع الفرد أن يقف أمام أي عدو يستهدف الفرد أو حضارته أو ثقافته أو بلده.
ويشير مفهوم التسامح إلى الاعتراف والقبول بحقوق كل الأفراد والجماعات التي لديها أفكار وآراء ومواقف وسلوك. حيث انه هو الطريق إلى الشعور بالسلام الداخلي.
لذا لا بد من الاهتمام بدور العقل والفكر للاتجاه لتحقيق السلام العادل من خلال إبراز قيم التسامح والحوار البناء والعدل وأثر ذلك في مختلف الأصعدة (الأسرة ، والمدرسة، والمجتمع ، والدولة).
ولقد شغلت قيمة التسامح مع الآخر مساحة واسعة في الفكر الديني عموماً والإسلامي بشكل خاص، فقد جاء في القرآن الكريم عدد كبير من الآيات الكريمة التي تؤكد بشكل واضح حرص الدين الإسلامي على ممارسة قيمة التسامح مع الآخر، منها قوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (فصلت: 34) وقوله جل شأنه: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (الزخرف: 89) كما يتضح من السنة المطهرة أن الإسلام وقف موقفاً حازماً ضد التعصب والعصبية، بدليل قول الرسول صلي الله عليه وسلم: “ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية”
ولقد وأبرزت اليونسكو أن التسامح هو شرط ضروري للسلام وللتقدم الاقتصادي وإشاعة روح التضامن بين الشعوب.
أما عن آلية تعزيز هذه القيمة فأشارت اليونسكو إلى أهمية المعرفة وتفتح العقل والنزوع إلى التواصل، والاعتراف للآخر بحق التفكير والشعور والاعتقاد.
ولقد أثبتت الدراسات الحديثة إلى أهمية السلام الداخلي والتسامح مع النفس والآخرين في تنمية الذكاء العاطفي، والتعلم من أخطاء الماضي دون الوقوف علي أعتابه، وكذلك التحكم بالعواطف من خلال تعاليم الدين فضلا عن التأمل في قصص نجاح وفشل الآخرين.
نحن في أشد الحاجة لتحقيق الأمن الفكري الذي يقود الإنسان للإبداع والتألق والتميز ليصبح أداة وقناة هامة للتطوير.
و من جهة أخرى يتسم التسامح بالعديد من المميزات الخلقية من بينها إيجابيته بحيث لا يقف الأمر عند حد قبول الآخر, ولكن الاستفادة منه لاكتساب مشاعر الغيرية وزرع روح الأمل, إنه ما يتيح لنا أن نتعلم العيش مع الجماعة ومع الآخرين المختلفين عنا, والأهم من ذلك هو أن نمنح الآخر حق التعبير عن أفكار وقناعات قد تتناقض مع ما لدينا من أفكار وقناعات, بل واحترام الحق في التعبير عن مقاصد قد تبدو لنا غير ذات قيمة أخلاقية, وتجنب فرض تصوراتنا الخاصة لما هو ليس كذلك مما يبرر منع الآخر من الكلام. وعليه فإن الخطورة التي تكتسبها النظريات القائلة بصراع الحضارات والثقافات والديانات هي أنها تؤدي إلى سقوط الأفراد والجماعات في مزالق التطرف والتعصب, وأن السبيل الوحيد للوقوف أمام تلك النظريات التشاؤمية هو تعزيز قيمة التسامح بتعقل وقناعة، لتعزيز القواسم المشتركة وإقصاء الفروق والانفتاح على الآخر المختلف، وهذه دعوة تنسجم مع ثقافتنا الإسلامية شكلاً ومضموناً، بدليل قول الرسول “إنني أُرسلت بحنفَّية سمحة” أي ليس فيها ضيق ولا شدّة, تؤمن بالحوار بديلاً، وتؤكد أن التعددية الثقافية ثراء للفكر, وإن الإسلام لم يقم على اضطهاد مخالفيه أو مصادرة حقوقهم أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم، لأن حرية الاعتقاد مصانة بدليل قوله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة:256).
وإذا أردنا في حقيقة الأمر توظيف هذه الممارسة التسامحية الإسلامية في حياتنا, فأنه يجب علينا أن ندرك أبعاد هذا المفهوم بدقة وموضوعية عبر التركيز على الجانب الإنساني أو فيما يتمثل بالحق الإنساني، من خلال توظيف الأنساق المعرفية والتربوية كي تعمل على بناء اتجاهات ايجابية لدى الطلبة نحو الآخر، وصياغة ثقافة تسامح ايجابية تعترف بأن نقيض فكرة ما عميقة هو فكرة أخرى من نفس العمق، أي الاعتراف بأن ثمة حقيقة ما في الفكرة المناقضة لفكرتنا، وعلينا احترام تلك الحقيقة، وهذا يتطلب من المؤسسة الجامعية بكل مكوناتها خلق أنشطة تربوية و تطبيقية تمكن الطلاب و الطالبات من الانخراط الفعلي في ثقافة السلام والحوار والتسامح وقبول التنوع الثقافي، وإقصاء كل السلوكيات المنافية لهذه الثقافة التي يمارسها البعض داخل الجامعات العربية. ولكي يتمكن أعضاء هيئة التدريس من تعميق قيم التسامح لدى طلبتهم فإنه يتعين عليهم العمل على إحداث تغيرات وتعديلات جوهرية في المناخ العلمي والفكري والاجتماعي داخل البيئة الجامعية من خلال إشاعة القيم الإنسانية والأخلاقية وقيم الترابط الاجتماعي والتواصل الثقافي، كما يتعين عليهم تعميم ونشر قيم التسامح وتقبل النقد وقبول الآخر واحترام الفكر المخالف والإقرار بحق الاختلاف من خلال تهيئة البيئة الملائمة داخل الحرم الجامعي. ولأهمية تأصيل ثقافة التسامح في الفضاء
فالتسامح بذلك قيمة تتأسس على التناغم داخل الاختلاف, فهو ليس تنازلاً ولا مجاملة بل موقف فعال يحركه الإقرار بالحقوق العالمية للشخص وبالحريات الأساسية.لأجل ذلك كله يعتبر التسامح مفتاح الدخول إلى حقوق الإنسان والتعددية والديمقراطية ودولة الحق والقانون
إن ثقافة التسامح فضيلة إنسانية إسلامية حث عليها الدين الإسلامي وغرسها في نفوس وضمائر البشر من أجل التخلي عن المشاكل الاجتماعية والنفسية والثقافية والدينية كالكراهية والحقد والضرب والعنف والقلق التي تترك آثاراً هامه في حياة الأفراد داخل المجتمع ودعت إليها جميع الأديان الأخرى لبناء الفرد والمجتمع.
مفهوم ثقافة التسامح
التأكيد على أهمية احترام الآخرين، وحقّهم في اعتقاد ما يشاؤون، وعدم النظر إليهم بانتقاص لأنّهم مختلفون في لغاتهم، أو ألوانهم، أو دياناتهم، أو آرائهم، الأمر الذي يضمن للجميع الحق في الحياة الكريمة، الخالية من المنغِّصات مهما كان نوعه
إن تحويل التسامح إلى ثقافة تعمُّ أرجاء المجتمع يحتاج إلى عمل دؤوب من قبل كافة الجهات المعنيّة، خاصّة تلك التي تهتم وتُعنى ببناء الإنسان، وعلى رأسها الأسرة، والمدرسة، والدولة، إلى جانب أصحاب الفكر، وعلماء الدين، وغيرهم، فكلّ هؤلاء يمتلكون القدرة على تشكيل عقل الإنسان، وعاطفته، وتحصينه من الأفكار الدخيلة التي تعمل على تهميش الآخر، واحتقاره، وازدرائه، والتعامل معه بطريقة تتنافى مع أبسط حقوق الإنسان، والمبادئ الإنسانيّة العالمية التي تؤسّس لمجتمعات متحابّة، متآلفة، تتعاون فيما بينها على الخير،وعلى إبعاد الشرِّ عنها.
أهميّة انتشار ثقافة التسامح
*تعريف الناس علي بعضهم البعض، وعلي الثقافات والحضارات والعلوم الموجودة لدي الآخرين المختلفين فالبعض يؤثر الاكتفاء بما لديه مما سيؤدي إلى انقراضه وهو لا يدري.
*توفير الأمن والأمان والالتفات إلى القضايا الإنسانية المصيرية والعمل علي تنمية المجتمعات المحلية بدلا من قضاء الوقت في التشاحن التباغض وسب الآخرين والانتقاص منهم.
*إبعاد وتهميش دعاة الشر والحقد والكراهية حيث لا يعرفون للتسامح سبيلا ، وهم بالضرورة يتأثرون ويتقلص نشاطهم أمام هذه الثقافة الإنسانية العظيمة.
الطرق الايجابية للتسامح
*الثقة بالله
*الإيمان القوي
*التنشئة الدينية القائمة علي التسامح
*تحديد الضرر الناتج عن التسامح
*تجنب الشعور بالاستياء والغضب
*تجنب التفكير في الانتقام
*إبدال الأفكار السلبية بآخري ايجابية
*التعامل بالمحبة
*بث روح التعاون بينك وبين الآخرين
*لا تفخم المشاكل الصغيرة
*ضع نفسك مكان المساء إليه وفكر في كيفية رفع الإساءة عنه
*لا تتردد أو تحتار في قرار التسامح
*الاعتراف بالخطأ من أسرع طرق الوصول للتسامح
*المساعدة علي ايجاد حلول بديلة لحل المشاكل التي تواجهك أو تواجه الآخرين ذو صلة الله.
أنواع ثقافة التسامح
وتتعدد أنواع ثقافة التسامح:
أولاً: التسامح الثقافي
ويرتكز علي عدم التعصب للأفكار والثقافة الشخصية للفرد، فانه يتطلب حوار وتخاطب مع الأخر والحق في الاجتهاد والإبداع، فان الإنسان لابد أن يكون صدره رحباً.
ثانياً: التسامح الديني:
والمقصود به تسامح في حرية الممارسة الشعائر الدينية والتخلي عن التعصب الديني والتميز العنصري الديني وذلك لان الإسلام دين التسامح في العدل والمساواة.
ثالثاً: التسامح الأخلاقي:
هو طريق التعامل الأخلاقي مع الأفراد الذين نختلف معهم في القضايا الاجتماعية التي تؤثر فيهم.
التسامح الاجتماعي
أن التسامح الاجتماعي يتضمن العيش بسلام مع الآخرين بدون مشاكل وتقبل أفكارهم وممارساتهم التي قد يختلف معها الفرد وكذلك الإقرار بممارسة كافة الحقوق الحريات في المجتمع.
خصائص ثقافة التسامح
تتميز ثقافة التسامح بعدة خصائص:
*إزالة الحقد والكراهية الموجودة في ضمائر البشر والابتعاد عن مفهوم العنف والجريمة، وتعمل أيضا على تنمية روح المواطنة والديمقراطية بين الأفراد من اجل خلق وعي سالم بعيد عن مظاهر التخلف الاجتماعي الذي يرتكز على ترسخ مبادئ الحقد والكراهية.
*تضمن القدرة على تنمية الثقافة الدينية والاجتماعية وتقوية العلاقة الاجتماعية بين الأفراد، وكذلك القدرة على نبذ التعصب والتشدد في القرار والإجراءات الاجتماعية وتعزز الشعور بالتعاطف والرحمة والحنان في قلوب وضمائر البشر.
*كما إنها تجعل الأفراد يودون ويحبون بعضهم البعض في علاقاتهم الاجتماعية مما يساهم في نشر الاحترام والتعاون والتبادل في حل كافة المشاكل التي تؤدي إلى زعزعة علاقاتهم الاجتماعية. إذ أنها تجعل من الأفراد يعشون حياة متفائلة وبعيده عن التشاؤم والاكتئاب والحقد لأنه يتجسد في داخلهم مفاهيم العفو والحب.
إن ثقافة التسامح هي الطريق إلى الشعور بالسلام الداخلي والسعادة والشعور بالطمأنينة. وكذلك تؤدي إلى إبراز السلام الاجتماعي بين الدول وبين الأفراد من اجل العيش حياة اجتماعية خالية من مشاكل الحروب والنزاعات والصراعات التي تحدث بين الأفراد.
دور المرأة في إبراز وترسيخ مفهوم التسامح: ولا شك أن للمرأة دور بارز وفعال في ترسيخ مفهوم ثقافة التسامح وذلك من خلال:
1-نشر القيم الانسانية في الأسرة والمجتمع
2-أن تكون قدوة لغيرها
3-التميز في السلوكيات الأخلاقية
4-تعزيز العلاقات الاجتماعية بين الأفراد علي أساس نشر مفاهيم العفو، والحلم ، والأسوة الحسنة
5-خلق أسس التعايش السلمي من خلال موقعها في المجتمع
ونوصي لتحقيق ثقافة التسامح لا بد من الآتي:
1-ضرورة معالجة المشاكل الاجتماعية ، والعمل على إزالة الفوارق بين الجنسين سواء في المستوى الثقافي او الطبقي من اجل بث أسس روح المحبة والتسامح في نفوس الأفراد.
2-الحث على العفو وتقديم الاحترام للآخرين وعدم الانتقام وقلع جذور الحقد والعدوان والكراهية من نفوس الأفراد.
3-أن يتوجه الإعلام نحو تعزيز ثقافة التسامح في المجتمع لخلق وعي محب والحث على التمسك بكيان المجتمع ووحدته وقيمه. والقيام بمراجعه شاملة لمحتوى المناهج الدراسية وتطويرها بما يمكننا من مواجهة أثار العنف الاجتماعية على حقوق الأفراد.
4-ضرورة أن تتولى المؤسسة الدينية ترسيخ ثقافة التسامح من خلال الخطب الدينية والمحاضرات والمناسبات والمؤتمرات من اجل تعريف دول العالم بالإسلام الإنساني وقيمه الأخلاقية التي تقوم علي العدل والسلام والتسامح ونبذ العنف والكراهية.
وختاما العمل علي إحياء ثقافة التسامح تحقق للفرد الخير والصحة التفسية علي المستوي النفسي والمجتمعي والدولي من خلال إرساء القيم الإنسانية وقبول الآخر وخلق حياة اجتماعية سليمة.
د. ناهـد الخراشي
الكاتبة والمحاضرة في العلوم الإنسانية
عضو الهيئة الاستشارية العليا
مجلس علماء ومبدعي مصر والعرب