هل التعايش ممكن في سورية؟

الإثنين،12 آب(أُغسطس)،2019

هل التعايش ممكن في سورية؟

هيفاء بيطار*

طيلة ثماني سنوات، ومنذ بداية الثورة السورية، كان “فيسبوك” وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي حلاً مثالياً حتى لا ينفجر الناس من الغيظ، وليعبر كل مواطن عن أفكاره ومشاعره.

شخصياً، اخترت أن أعيش في اللاذقية (على رغم أن كل أسرتي تعيش في باريس)، كوني أريد أن أكون ضمير شعبي الحبيب وأن أشاركه آلامه وآماله. هناك، كنت أستقبل في بيتي النخبة المثقفة والسياسية في المدينة الساحلية السورية، نتبادل الحوار ووجهات النظر. لكن، كم يؤلمني ويؤسفني أن أروي كيف تطورت الأمور خلال السنوات الثماني الأخيرة.

لا بد من الإقرار بداية، بأن كل سوري خاسر، سواء كان موالياً للنظام أو معارضاً له، إذ حصد الموت آلاف الشبان، سواء كانوا من عناصر الجيش السوري أو من الفصائل المعارضة. كما طال النزوح الجميع، سواء كانوا موالين للنظام أم معارضين له، فيما أذل الانهيار الاقتصادي المروع الناس، وانهارت الطبقة الوسطى ليصبح الفقر سمة المجتمع السوري.

لطالما كنت أتوقع وآمل أن يؤدي الجرح العميق الذي يوحد السوريين، إلى زيادة تآزرهم وتعاضدهم ومحبتهم لبعضهم البعض. لكن للأسف، حصل العكس بشكل عام، ذلك أن شلة المثقفين (معظمهم سُجن أكثر من عشر سنوات في الثمانينات) والذين يزيد عددهم عن خمسة عشر، باتوا يترددون في الاجتماع في بيتي، وصار كل واحد منهم يسألني: “هل سيحضر فلان؟”، وإذا أجبته: “أجل سيحضر”، يسارع إلى القول: “إذاً أنا لن أحضر لأنني لا أتفق معه ولا أطيق منطقه في التفكير وفي قراءة ما يحصل على الأرض السورية”. النخبة المثقفة السياسية السورية، التي دفع كل واحد من أفرادها سنوات طويلة من حياته في السجن، ما عادت تطيق بعضها! لدرجة أن بت أتساءل بسذاجة: كيف يختلفون جوهرياً وكل منهم دفع زهرة شبابه في السجون؟ ، بل لا أبالغ إذا قلت أن بعض هؤلاء صاروا يخونون بعضهم البعض ويتبادلون الاتهامات بالكذب والانتهازية.

أعترف بأني اضطررت إلى إلغاء تلك اللقاءات الغنية بين الأصدقاء، والتي كنت أستقبلها أول عام ونصف من انطلاق الثورة السورية، التي فشلت وانحرفت كلياً عن مسارها في تحقيق الحرية والكرامة.

وإذا كانت النخبة المثقفة والسياسية في الداخل السوري تختلف اختلافاً جذرياً في رؤيتها، بدلاً من أن تشكّل قدوة للشعب المتألم وجامعاً له، فكيف سيكون حال عامة الشعب؟ للأسف، إن من يتابع الصفحات الخاصة بسورية على مواقع التواصل الاجتماعي، يلمس مدى هول الشرخ بين السوريين! على سبيل المثال، كتب لي أحدهم موبخاً وبوقاحة، بسبب إعجابي بزياد الرحباني، لأن الموقف السياسي للفنان اللبناني لا يعجبه! وحين أجبته بكل لباقة بأن كل إنسان حر في موقفه السياسي وبأنني أقدر زياد وأحب إبداعه بمعزل عن موقفه السياسي، اتهمني بـ”التذبذب” وأعلن أنه سيكف عن قراءة كل ما أكتب. زميلة أخرى تعيش حالياً في إحدى دول اللجوء، عنفتني بشراسة لأنني ترحمت على الممثل القدير فاروق الفيشاوي الذي أعتبر نفسي معجبة بفنه ولا تعنيني حياته الشخصية. السيدة ذاتها اعتبرتني “خائنة” للشعب السوري لأن فاروق الفيشاوي زار دمشق! ولتكتمل الصورة، فإن من خونني لأنني أحب فن زياد الرحباني ومن خونتني لأنني أحب الممثل المبدع فاروق الفيشاوي، كانا يعيشان في الداخل السوري كالنعاج، لا ينطقان بحرف في انتقاد حتى كومة قمامة في الشارع! ويتملقان كل مسؤول ويكيلان له المديح، بل كانا يتجنبانني لأنني أكتب مقالات جريئة في نقد الأخطاء والممارسات الخاطئة في المجتمع السوري، علماً أني دفعت ثمن مواقفي منعاً من السفر، وصولاً إلى استدعائي مراراً إلى مكاتب أجهزة الأمني. ولم يكن أحد يجرؤ أن يدعمني أو يقف إلى جانبي في محنتي، فمن تستدعيه الأجهزة الأمنية يخاف منه أصدقاؤه ويبتعدون عنه كما لو أنه وباء. لكن، حين خرج هؤلاء النعاج المنافقين خارج الوطن، بدأوا بـ “الصراخ” وصار سهلاً عليهم الشتم وليس النقد، حتى أنهم اتهموني بالجبن، وانتقدوا مقالاتي، معتبرين أنها يجب أن تكون “أكثر جرأة وحدة في انتقاد النظام”، النظام فقط، وليس الجماعات المتطرفة الإرهابية التي لا يأتون على ذكرها أبداً، والتي أبدعت في سفك الدم السوري والخطف والذبح. وأزعم أن هؤلاء يطالبونني بأن أكتب بجرأة أكبر، لأكون “كبش محرقة”، ليستمتعوا وهم يتفرجون عليّ وحيدة وعزلاء في مصابي.

ما أسهل أن تدعي الشجاعة والبطولة وأنت خارج سورية، هؤلاء أشبه بديوك على مزبلة، إذ ابتلي الشعب السوري بقسم ممن يسمون أنفسهم “معارضة الخارج” التي ارتهنت لدول عدة شريكة في سفك الدم السوري وجمعوا ثروات، وكلهم يتفقون على مبدأ واحد وهو أنهم يريدون أن يضحوا بآخر قطرة من الدم السوري! سبحان الله… من قال لهم إن الشعب السوري يريد أن يموت؟، الشعب السوري يحب الحياة والفرح، يريد أن يزوج أولاده ويزغرد في أعراسهم وليس في جنازاتهم.

إن الذين يتهمونني ويتهمون غيري بأنني أحب زياد الرحباني وفاروق الفيشاوي، ويعترضون بشراسة على موقفهما السياسي، لا ينبسون ببنت شفة على شلة الأدباء والفنانين الذين زاروا إسرائيل وتباهوا بالتطبيع معها.

أنا أؤمن بأن الشعب السوري أعزل تماماً. فلا النظام يمثله ولا المعارضة، هو شعب متروك للفقر والعقوبات الاقتصادية ولرفض العالم له، علماً أن معظم دول اللجوء حالياً تتمنى ترحيله وتسعى إلى إعادته إلى سورية التي تشرذمت وتجزأت.

المؤسف، أن من يحاول أن يكون منطقياً وغير متطرف وصادق في حب سورية وشعبها، أي المعتدل، يُعاقب من قبل النظام الذي يمنعه من السفر ويجره إلى فروع الأمن كلما كتب مقالاً جريئاً ينتقد فيه مظاهر الفساد في البلاد، ويكون منبوذاً وخائناً أيضاً بالنسبة إلى معارضة الخارج الموظفة لدى دول معينة وتقبض منها الملايين!

لا أنكر أن بعض الأطراف الحاقدة في معارضة الخارج، تتهمني بـ “التذبذب” وبأنني ضمنياً “مع النظام”، لأني لست في السجن! كما لو أنه يتوجب على كل سوري أن يكون في السجن حتى يثبت وطنيته! بعضهم يقول لي: “النظام يتسامح معك النظام لأنك مسيحية”!. لا أعرف ما التسامح الذي يتحدثون عنه، وقد مُنعت من السفر مرتين بعد وصولي إلى بوابات الحدود. علماً أني كنت ذات مرة مسافرة إلى البحرين لأشارك في مؤتمر ثقافي، وأُلغي سفري لأني تبلغت على الحدود بأني “ممنوعة من السفر” الله أعلم لماذا.

هل يجب أن يُقطع رأسي ورأس كل مثقف وطني ليثبت لهؤلاء المرتزقة أنه وطني ويحب الشعب السوري؟ المؤسف أن بعض هؤلاء يعتبرون أن كل مثقف يعيش في سورية من الموالين للنظام.

كم أشعر بالقهر وخيبة الأمل وأنا أرى ما آل إليه وضع معظم السوريين بعد ثماني سنوات من الثورة السورية المُنتهكة. فبعيداً من التعميم، يمكن القول أنه بدل أن يوحدهم الجرح، جعلهم ينفرون من بعضهم! والطامة الكبرى أن نخبة المثقفين الذين قضوا سنواتاً طويلة من حياتهم في السجون دفاعاً عن مبادئ الحرية والكرامة، ما عادوا يطيقون بعضهم وكل منهم يخون الآخر بل يعتبره موظفاً عند الأجهزة الأمنية. وفوق كل هذا، تراهم اليوم يتحدثون عن إعادة الإعمار! هل يكون الإعمار ببناء حجر فوق حجر؟ من يرمم الشرخ الفظيع الذي حصل في نفوس السوريين؟ من يعيد إلى السوري روعة عبارة “أخي في الوطن وشريكي فيه” مهما كانت قناعاته سواء أحب زياد الرحباني وفاروق الفيشاوي أم كرههما؟

إن بناء الوطن لا يقتصر على الحجر بل على البشر، لكن المؤسف أن الأحقاد انتصرت على الحب، وحصل شرخ كبير بين السوريين ألمسه تماماً حتى هنا في باريس!

*كاتبة سورية

المصدر: جريدة “الحياة” 11 أب/أغسطس 2019