د. تغريد عبده الحجلي
مقدمة
كثرت في المرحلة الاخيرة مصطلحات الحرب ، العنف ، الارهاب النزاعات المسلحة ولو اختلفت في بعض اسبابها و مفاهيمها الا انها تقود الى نتيجة مشتركة الا و هي الكوارث الانسانية ، من فوضى، و كراهية ، و طائفية وما الى ذلك يدفع ثمنها الفرد من انسانيته و حضارته و ثقافته ، يعكسها بصورة سلبية على مجتمعه مما يؤدي في النهاية الى تراجع فكري وتنموي خطير تختفي عندها النزعة الإنسانية ، والتي يُعتبر عنصرها الاساس و الوحيد هو جعل المواطن الإنسان القيمة الأولى والغاية النهائية والمعيار الأول والأخير فلا مبادئ وطنية من دون مواطن حقيقي، ولا قيم إنسانية من دون إنسان حقيقي ولا إنسان دون احترام حقوقه لكي نجنب مجتمعاتنا تبعات هذه الكوارث قدر الامكان علينا العمل لاحلال الامن الاجتماعي خلال النزاعات و الحروب و ما بعدها و يعتبر السلم الاهلي بمثابة الامن الاجتماعي و الركيزه الاساسيه لبناء المجتمعات الحديثة و عاملا رئيسيا في حماية منجزاتها والسبيل الى رقيها و تقدمها حيث يوفر البيئة الآمنة للعمل و البناء و يبعث الطمأنينة في النفوس كما يشكل حافزا للابداع ويتحقق الامن بالتوافق و الايمان بالثوابت الانسانية التي توحد النسيج الاجتماعي و الثقافي الذي يبرز الهوية الوطنيه و يحدد ملامحها سعيا للوصول الى تعزيز الروح الوطنية و تحقيق العدل و المساواة و تكافؤ الفرص
شغل موضوع السلام الرأي العام منذ نشأة المجتمعات وذلك لما يحمله هذا المفهوم من دلالات تُعنى بالإنسان بالدرجة الأولى فلقد تناولته الحضارات القديمة والديانات السماوية والوضعية والقوانين والدساتير والمواثيق المحلية والإقليمية والدولية.
مفهوم السلم الاهلي
لم يعد مفهوم السلم يقتصر على عدم وجود الحرب بل أصبح هناك السلم الخارجي والسلم الداخلي وهو التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد و الذي يتمثل بإشباع حاجات الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية سعيا الى خلق نموذج للتعاون والدمج بين التجمعات البشرية الرئيسية وغياب العنف، مما يوفر أرضية مناسبة للقضاء على مسببات الصراع وحل الخلافات والتفاهم وبالتالي بناء السلام المطلوب فعملية السلم لا تتوقف عند حد صناعته وحفظه بل تتعدى ذلك إلى بنائه بمعالجة الأسباب الجذرية للصراع وتغيير كافة الهياكل والأنظمة التي ساهمت في انتاج الأزمة كما أن غياب التعايش الأهلي يعني تشظيا للإرادة المشتركة، والذاكرة الجمعية . وهذا هو المعنى الرديف لضياع الهوية ، وفقدان الوطن لدوره ورسالته
كما يقوم على الاختيار الطوعي والواعي والمؤسس على الاقتناع بالسلم والالتزام المبدئي بتمكينه واستدامته والعزم على معالجة أسباب العنف والحرص على حل المنازعات بالطرق السلمية فالسلم الأهلي لا يبنى بنزعات الاستفراد والإقصاء إنما بمبادئ الشراكة والتعاون والتعاضد وإزالة كل الضغائن من النفوس والعقول والسلوك
فالعيش المشترك والسلم الاهلي لا يتحققان الا بالفكر المتحرر والمستوى المعرفي الرافض للتفاضل والتمييز المذهبي والقومي كما لايتحقق الا من خلال نظام اجتماعي متكامل ومتطور وله من الوعي والادراك ما يؤهله ان يكون في طليعة المجتمعات التواقة الى وحدة الشعب بكل انتماء اته فالايدولوجية والمنهجية الفكرية المتحضرة المبنية على اساس التضامن والترابط الاجتماعي الوثيق ذو البناء الرصين وحدها قادرة على بناء مفهوم التعايش. ولا يغيب عنا سلوك وسياسة الحكومات ودورها الفاعل في ارساء دعائم التعايش وترسيخ جوانبه لبناء مجتمع متاخي من خلال برامجها السياسية التي تكفل حقوق المواطنة وصيانه الحريات بكل اشكالها من خلال تشريع قوانين يكفلها الدستور ليصون كرامة جميع الاطياف على اختلاف انتماء اتها دون تميز. فاحتدام الصراع على السلطة من اجل تحقيق اهداف قد تكون طائفية او مصالح فؤية ضيقة آنية او بعيدة المدى قد يدفع بالتعايش السلمي الى مفترق طرق يصعب معه معالجته الا بعد زوال عوامله الهدامة واصلاح ما افسدته الصراعات بعد ادراك خطورة الموقف وتأثيره على صيرورته وبقاءه متماسكا ومتراصا
لقد ظهر مفهوم ثقافة السلام في بدايته بعد الحرب العالمية الثانية تحت عنوان “بحوث السلام” ومن بعد تبنته منظمة الأمم المتحدة، غير أن هذا المفهوم قد تطور أخيراً في نهاية القرن الماضي وظهر ذلك في عدد من المؤتمرات والندوات والإعلانات ذات الصلة التي تناولت تحليل أبعاد هذا المفهوم ومرتكزاته وطرق تحقيقه، على اعتبار أن ثقافة السلام هي “ثقافة للتعايش والتشارك المبنية على مبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية والتسامح والتضامن، هي ثقافة ترفض العنف وتدعو لحل المشاكل عن طريق الحوار والتفاوض كما حدد بيان موسكو بشأن السلام أهم مرتكزات ثقافة السلام فقد اعتمدت الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) برنامج ثقافة السلام (عام 1992) كإستراتيجية لبناء السلام والمصالحة في مرحلة ما بعد النزاعات.
تعتبر عملية الضبط الاجتماعي احدى أهم ركائز تحقيق السلم الاهلي في المجتمع والضبط الاجتماعي نظام قديم عرفته البشرية وعرفه الإنسان من خلال تنظيم العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع لاشباع حاجاتهم ولضمان استقرار المجتمع واستمراره من هنا استمدت دورها القوي والفعال في توفير الرقابة على الفرد والمجتمع ..
للضبط الاجتماعي صوراً ووسائل يتحقق عن طريقها ، والتربية هي أهم هذه الادوات وهنا يبرز دور التربية في ضبط المجتمع و الدور الهام للمرأة ـ الام ـ في عملية التربية و التنشئة الاجتماعيه من خلال غرس قيم السلام و المحبة و التسامح في نفس اطفالها منذ الصغر
.
دور المرأة في تعزيز مفهوم السلم الاهلي
الاسرة هي البيئة الاولى التي تتعهد الفرد بالرعاية منذ طفولته المبكرة ، و تبرز أهميتها في عملية التنشئة الاجتماعية من كون الطفل يعتمد اعتمادا كليا على والديه خلال سنوات حياته الاولى تلك المرحلة الهامة في تشكيل شخصية الفرد و اثرائها ، ذلك أن هناك بعض الحاجات التي لايمكن لوسائط التنشئة الاجتماعية أن تقدمها للفرد كالحاجة الى الحب و العاطفة ، فتقوم الاسرة بغرس المبادئ الاخلاقية و تكوين العادات السليمة و نقل الانماط التربوية لافراد المجتمع ، و تنقية الانماط السلوكية التي لا تتناسب و القيم الاجتماعية .
لهذا كان الاهتمام الكبير بالاسرة كمؤسسة اجتماعية يقوم عليها النظام الاجتماعي كله حيث تمثل الأم ركنا هاما في بنائها فتقوم بدور الضبط الاجتماعي و الذي يبدأ منذ الطفولة كما تتولى حراسة قيم المجتمع و تنميتها ، تلك مهمة ليست سهلة ، فالمرأة بذلك تقوم على إعداد رأس المال البشري اللازم لأي عملية تنمية ، و من ثم يكون لعملها في بيتها من الاهمية ما يعادل أو يزيد على عملها بالخارج لقد اثبتت العديد من الدراسات في هذا المجال أن هناك مشكلات عدة كالتخلف الدراسي و الانحراف ترتبط الى حد كبير بغياب الام خاصة بعد موجة انتشار الخدم خاصة في الدول ذات الدخل المرتفع تعترف العديد من المؤسسات الدولية بمشاركة المرأة في بناء السلام بوصفها عنصرا حاسما في درء الصراعات وحلها على السواء وهذه الحقيقة تجلت في قرار مجلس الأمن للأمم المتحدة 1325 الصادر في العام 2000 ، الذي يلزم الأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها بإشراك المرأة في منع الصراعات و بناء السلام و الذي اطلق فيها وزير خارجية ناميبيا عبارته الشهيرة عندما كان يرأس مجلس الأمن الذي صوت على القرار 1325 المتعلق بالسلام والأمن « تشكل النساء نصف المجتمع… فلماذا اذن لا يشكلن نصف الحلول»؟. كذلك أكدت قرارات مجلس الأمن الدولي على ضرورة حماية حقوق المرأة خلال النزاعات المسلحة ، لمنع العنف الجنسي ، وإدماج المرأة بشكل كامل في عمليات ما بعد الصراع، المصالحة وإعادة الإعمار. وقد سلط القراران 1820 لعام 2008، والقرار 1888 لعام 2009، الضوء على الأزمة المستمرة في استخدام العنف الجنسي كأسلوب من أساليب الحرب، داعيان إلى الوقف الفوري لهذا النوع من العنف.
قرار مجلس الأمن 1325: المرأة كعنصر فاعل في السلام والأمن
اعترفت الأمم المتحدة في عام 2000 عبر مجلس الأمن ليس فقط بالتأثير الخاص للنزاعات على النساء ولكن أيضا بالحاجة إلى تضمين النساء باعتبارهن صاحبات مصلحة نشطة في مجال درء الصراعات وحلها. واصدر مجلس الامن قراره رقم 1325 بشأن المرأة ، السلام والأمن مشددا على الحاجة إلى :
مراعاة خصوصية المرأة وإشراكها في عمليات الحفاظ على الأمن وبناء السلام وخصوصا في المناطق المتضررة من النزاع.
توعية قوات حفظ السلام والشرطة والسلطة القضائية بخصوصية المرأة في الصراع واتخاذ تدابير لضمان حمايتها والالتزام بحقوق الإنسان للنساء والفتيات.
تأمين الاحتياجات الخاصة للنساء والفتيات في النزاعات.
دعم دور المرأة في مجالات المراقبين العسكريين والشرطة المدنية والإنسانية ومراقبي حقوق الإنسان.
تمثيل نساء المجتمعات التي شهدت صراعات مسلحة لإسماع أصواتهن في عملية تسوية الصراعات ولتكن جزأ من جميع مستويات صنع القرار كشريك على قدم المساواة لمنع الصراعات وحلها وتحقيق السلام الدائم.
تواجه النساء في جميع أنحاء العالم تحديات هائلة لمشاركتهن في عمليات بناء السلام وترجمة الصكوك القانونية في حقوق حقيقية وإحداث تغيير ملموس ، في كثير من الأحيان تتعرض قدرة المرأة على التأثير بشكل فعال في عمليات بناء السلام الى التهديد أو العنف القائم على أساس الجنسية ونوع الجنس والتي تصاعدت بشكل شائع أثناء وبعد النزاعات المسلحة ، فضلا عن استمرار العقبات التي تحول دون المشاركة السياسية للمرأة الكامل في العديد من البلدان.
وفي كثير من الأحيان لا تُمثّل المرأة تمثيلا كافيا في مستويات صنع القرار ولا تشارك في مفاوضات السلام والاتفاقات والمنظمات النسائية الشعبية ومبادراتهن للسلام يتم تهميشها أو تجاهلها. كذلك، غالبا ما يتم تجاهل قضايا المساواة بين الجنسين في إعادة البناء بعد انتهاء الصراع..
رغم الدور الايجابي و الفاعل الذي لعبته المرأة خلال و بعد ثورات الربيع العربي في تدعيم قيم السلام و الحفاظ على النسيج الاجتماعي من التفتت و التشتت خاصة بعد ظهور تنظيمات تدعو الى التناحر الطائفي و الديني و السياسي و باعتبار حداثة هذا الدور بالنسبة لها و الذي عززته تلك الثورات التي اظهرت الاندفاع القوي للمرأة العربيه للعب أدوار قيادية إن على مستوى المشاركة في التظاهر و التعبير عن الرأي أم على مستوى معالجة الواقع المجتمعي من خلال نشر ثقافة التعايش السلمي بين افراد المجتمع نظرا لتنوع مجتمعاتنا، الا انها مازالت بحاجة الى:
1ـ ضرورة مشاركة النساء في كل مراحل العمليات السلمية والمفاوضات وفي برامج التثقيف من أجل السلام وبناء السلام ما بعد النزاعات.
2 ـ تحفيز النساء على المشاركة في حملات التوعية من أجل السلام
3 ـ تبني برامج تدريبية وورش عمل تستهدف التأهيل السياسي والاجتماعي للمرأة.
4 ــالتعاون بين الأجهزة الوطنية المعنية بشئون المرأة في الدول المختلفة والمنظمات الأهلية وتطوير شبكات لتبادل الخبرات والموارد وربط القضايا المتعلقة بالسلام مع التركيز على المرأة والسلام في برامجها.
5ـ ـ إبراز الدور الفاعل للمرأة في بناء السلام على كل المستويات .
الثابت أن تصحيح وضع المرأة في العالم بأسره يتيح امكانيات واسعة لتحقيق التعايش بين أفراد المجتمع ومن ثمة بين البشرية بمختلف مكوناتها ، ولا يمكن للمرأة أن تصل الى لم شمل المجتمع الا اذا توفرت أسباب النجاح و الدعم الكافي.
السؤال الذي يطرح نفسه هو : هل سيتأثر دور المرأة في التنشئة الاجتماعية و نشر ثقافة التعايش السلمي أمام ثورة الاتصالات الحديثة و المتمثلة بالانترنات لاسيما مواقع التواصل الاجتماعي ؟