حقوق الإنسان في ثقافتنا المعاصرة

الخميس،13 تشرين الأول(أكتوبر)،2022

حقوق الإنسان في ثقافتنا المعاصرة

نور الدين ثنيو*

مقولة حقوق الإنسان تنطوي على مفهومين: “حقوق” و”إنسان”، ومن هنا يجب مراعاة حياة الإنسان كذكر وأنثى، لأن ثقافتنا المعاصرة تأبى التفرقة والتمييز وكل أشكال الاحتقار والأوضاع الدونية. فالإنسان في الزمن المعاصر هو الإنسان ذاته في كل مكان من العالم، ولا يمكن أن يقبل أي افتئات عليه ويرفض الظلم حيثما كان ووجد. إن الوعي العالمي يعبر عن صلب الثقافة الجديدة التي تميزها عالمية حقوق الإنسان إلى حد صرنا نتعامل مع الإنسان/المواطن العالم، أي القابل للعبور إلى ما بعد الوطن.
إن مفهوم الحقوق يشير إلى الإمكانات والقدرات التي يكتشفها الإنسان في نفسه عبر تطور الحقب والأزمنة، والفضاءات الثقافية والحضارية، فالثقافة مُنشئة للحقوق والحريات في الامتداد الأفقي، عما في العمق المدني والسياسي. فالاجتماع المدني والسياسي يجب أن يحمي ويرعَى هذه الحقوق، لأنها صارت مرتبطة بحياة وموت أفراد المجتمع. وما الأوضاع الخطرة التي يعيشها كثير من بلاد الدنيا إلا ترجمة أمينة لما هو عليه الإنسان الفاقد لحقوقه، وانعدام الهيئات والأجهزة القادرة على صيانتها، ليس للفرد المواطن في بلده فحسب، بل للمواطن الأجنبي أيضا، لأن ظاهرة دول/ الهجرة صارت عملة متداولة، ويجري التعامل معها على أنها ظاهرة عادية وطبيعية في زمن معاصر، يجمع الكل في بوتقة عالمية واحدة.
حقوق الإنسان، كما نتعامل معها اليوم، إن في المجتمعات المتقدمة أو المتخلفة، هي ذاتها. غياب القدرة على صيانتها وحمايتها من التنظيمات المتطرفة والأجهزة القمعية والإرهابية لبعض الدول، هي التي تميز الدولة المتقدمة عن الدولة المتخلفة. معيار احترام حقوق الإنسان يدخل كفيصل للتفرقة بين التقدم والتخلف، وهو معيار فَعّال، لأن الإنسان هو الذي يتناول حرياته وإمكاناته النفسية والعقلية والروحية والجسدية ويتواصل معها بالإبداع والاكتشاف والتربية المستمرة. وانطواء حقوق الإنسان على هذه الخصائص هي التي تجعلها غير قابلة للمصادرة الوطنية.. وأنها في المتداول العام والعالمي، بمعنى أنها دخلت الحَيّز الذي لا يقبل الافتئات، أو الإدغام في تنظيمات عنيفة وقمعية وإرهابية. حقوق الإنسان، كما ألمحنا من قبل، تحيل إلى مشكلة الإنسان مع نفسه وقدرته على الاستئناس بما في جوَّاه والإصغاء إلى داخله، فضلا عن الاطلاع على ما يجري لدى الآخرين، كأن تتابع شعوب العالم كلها في لحظة واحدة الألعاب الأولمبية ليدركوا عن كثب وفي برهة خاطفة من الوقت، كيف تحطم الأرقام القياسية الدالة على قدرة ما يفعله الإنسان مع نفسه، والإنجازات الرائعة التي يضيفها إلى حقوقه الجسدية والنفسية والروحية والعقلية، التي يعبر عنها شعار الألعاب الأولمبية: “أكثر سرعة وأكثر علوا وأكثر قوة ـ معا”… فلحظة الألعاب الأولمبية من جملة مناسبات أخرى، تُوَفِّر الفرصة ليعرف الجميع لحظة ميلاد الحق، والمناسبة التي يجب الإسراع إلى إسعافه وصيانته بالوسائل والأوضاع التي تليق به. واليوم، صارت الرياضة، في كل متطلباتها ومقتضياتها أفضل قاسم مشترك بين شعوب الأرض كافة، بداية من فهم قواعد الألعاب ومتابعتها وليس انتهاءً بالألبسة في أصناف مارْكاتِها، الأصيل منها والمُقَلَّد، المحَلِّي والعالمي. والمجتمع الرياضي اليوم هو المجتمع الذي يشعر بعالميته، لأنه يتبادل ثقافة مع آخرين على المستوى نفسه وعلى صعيد واحد من الدراية والفهم، كما أن الرياضي الممتاز هو إنسان بامتياز، لأنه مرشح أن يكون في دولة ومرشح دائما للانتقال من بلد إلى آخر، مؤكدا عالميته وفائدته في الوقت ذاته لبلده الأم أو الأصلي، ناهيك من استطاعته جمع أكثر من جنسية.
إن الوعي الفائق بقيمة وأهمية حقوق الإنسان تفصح، لمن يحسن التفكير والتدبير في شأن الإنسان والمجتمع والدولة والعالم، عن وجود الواجبات والالتزامات والمسؤوليات حيال الآخرين أيضا. فالإنسان هو الإنسان مع حقوقه ومع واجباته. وعمق الحقوق هي التي تشعر الإنسان ذاته بأن عليه أن يعيش مع الأغيار والأجانب، وتراوده دائما فكرة الانتقال والسفر والترحال بعيدا عن الوطن. ولعلّ ما تؤكده العلوم الإنسانية والاجتماعية بأن هوية الإنسان لا تتحقق إلا مع وعبر وجود الآخر، تفصح حتما وفورا، بأن حقوق الإنسان وواجباته لا تتحقق إلا كونه صاحب هوية، بالمعنى الذي يشير إلى وجود الشخص مع أشخاص آخرين، بل إن الشخص ذاته يستبطن الآخر الذي لم يعد آخر بقدر ما أنه صار مكوّنا للذات أيضا، وعلينا أن نلتفت إلى تفاصيل حياتنا الاجتماعية والسياسية لكي نتأكد من دور الآخر في إسعاف الذات وتكوينها أيضا. وأن الغالب في الحالات التي تتطلب التدخل والمساعدة هي في الدول التي تحترم وتصون حقوق الإنسان.
وعليه، فثقافتنا المعاصرة تضعنا في صلب الحياة الإنسانية ليس بمعنى الشخص الفرد فحسب، بل بالمعنى الأخلاقي لكلمة الإنسانية، أي تلك النزعة أو الاتجاه الذي يرمي إلى تقدير الشخص دائما كإنسان يتمتع بحقوقه، لأنه يدرك واجباته في اللحظة ذاتها، لأن الثقافة المعاصرة، على ما نحيا ونعيش، عَمَّمت مقدرات وإمكانات الإنسان كافة، ذكرا وأنثى، وأضحت في متناول اليد والمعتمد العادي والتداول العمومي، أي تلك التي تدخل إلى الحيز المؤسساتي والرسمي والقانوني.
الإنسان في عالمنا المعاصر هو الكائن الوحيد الذي يشعر بحقوقه التي تعني أيضا واجباته حِيال الآخرين، بناء على ما تراكم من تجارب وخبرات، ومن رصيد معنوي وأخلاقي ومادي، وبتعبير آخر، يفيد المعنى نفسه، أن الإنسان، بما تحَصّن به من حقوق، هو الشخص الذي بلغ مستوى من الحضارة الإنسانية تسمح له بالعيش مع بقية الحضارات الموجودة اليوم في حيز بشري واحد في العالم، على خلاف الإنسان في السابق، الذي لا يعبر إلا عن حضارة ومدنية وثقافة البلد الذي نشأ فيه وعاش. ومن هنا، فيمكن لهذا الإنسان، الذي يدرك حقوقه كما يدرك واجباته، أن يغيَّر العالم لصالح الإنسانية جمعاء وينقل الوضع من صراع الحضارات، كما يوصي غلاة النزعة الرأسمالية، إلى حوارها وتعايشها، كأفضل سبيل إلى اكتشاف الذات في تفاصيلها وأصولها وتنوعها المذهل.
عندما تبلغ حقوق الإنسان هذا الشأن وهذا الاعتبار، لا ريب في أن أي محاولة لمصادرتها والحجر عليها هي جريمة كبرى قلّما ننتبه إلى عمق الأضرار التي تنجم عنها، لأن جريمة تمس حقوق الإنسان هي جريمة على وجهين، وجه أن مرتكب جريمة مصادرة الحق، مجرم حيال من اغتصب منه الحق أو قمعه، وجريمة بوجه آخر، لأنه ارتكبها ضد نفسه أيضا عندما تعدى على واجب فيه يطالبه دائما على الحرص على حقوق الآخرين، لأنه واحد منهم. وتلك هي خاصية حقوق الإنسان عندما تعني الشخص والآخر في الوقت ذاته، كما تعني الحق والواجب أيضا. ولعلّ هذا ما حدا بالبعض من رجال القانون الدولي ومنظري الإنسان المعاصر إلى الانتقال إلى مفهوم الحقوق الإنسانية، بدلا من حقوق الإنسان التي لا تزال تعني الفهم التاريخي للإنسان في الثقافات الغربية وهو الرجل. فمقولة الحقوق الإنسانية تخفي الظلم الذي لحق المرأة من مقولة «حقوق الرجل» Les droits de l’homme

  • كاتب وأكاديمي جزائري

المصدر: القدس العربي