تركيا وعبثية استنساخ التاريخ السلطاني

الثلاثاء،31 كانون الأول(ديسمبر)،2019

د. حسن أبو طالب

عبارتان خطيرتان قيلتا الأيام القليلة الماضية، كل منهما تكشف طبيعة الإدراك الرسمي التركي تجاه الشعوب العربية؛ الأولى ذكرها متحدث الرئاسة التركية قائلاً: «سنفعل في ليبيا مثل الذي فعلناه في سوريا»، والثانية قائلها الرئيس التركي إردوغان، في معرض تفاخره بإرسال جنود أتراك إلى الأراضي الليبية: «يوجد مليون ليبي من أصول تركية يستحقون دعمنا والتدخل لنجدتهم، والوقوف إلى جانبهم»، متجاوزاً بذلك تبريراته السابقة بأن جيش بلاده سيلبي دعوة حكومة الوفاق برئاسة السراج، وواضعاً سبباً جديداً للتورط في مغامرة عسكرية بعيدة عن الحدود، وتقع على بعد 1670 كيلومتراً جواً، و200 ميل بحري بحراً، بين أقرب نقطتين على شاطئي تركيا وليبيا. وإذا كانت العبارة الأولى توضح هدف تركيا، وهو احتلال جزء من الأراضي الليبية كما هو الحال في حالة سوريا، والسيطرة عليها والعبث بمقدراتها، وفرض الهوية التركية عليها عبر فرض نظام تعليم ونظم إدارة ولغة تركية، والتحكم في مصيرها عبر فئة من العملاء المحليين، فإن الإشارة إلى مسؤولية تركيا عن حماية مجموعة من السكان في بلد آخر لأن لهم أصولاً تركية، نتيجة فترة احتلال دامت 300 عام، وانتهى أثرها قبل مائة عام، ولم يعد لها وجود قانوني أو معنوي أو سياسي، فهذا هو الأمر المقلق ليس فقط لليبيين، بل لكل الدول الوطنية التي عانت في فترة من تاريخها احتلالاً عثمانياً، أذل أهلها وأشاع الجهل بينهم ونهب مواردهم.
نزوع إردوغان لاستعادة ما يعتبره أراضي كانت يوماً ما تحت سيادة السلطنة العثمانية التي أجهز عليها ضعفها الذاتي وتخلفها، مقارنة بما كان في الغرب الأوروبي، وحركة التتريك القومية، وكاريزما أتاتورك ذات المنحى العلماني المناهض للسلطنة، فضلاً عن مقاومة العرب للتتريك ولسطوة السلطنة، يمثل خطوة كبرى، ليست نحو إحياء هيمنة عثمانية كانت موجودة في نطاق جغرافي بشكل أو بآخر، لأربعة قرون ونيف؛ بل نحو تقويض النظام الدولي المعاصر، ولا تقل في آثارها السلبية عن محاولة تنظيم «داعش» إقامة دولة مزعومة للخلافة الإسلامية، على نقيض تام لكل قواعد القانون الدولي الذي يمثل إرثاً بشرياً وتاريخياً يهدف إلى ضبط علاقات الشعوب والدول، والسيطرة على نزعات وأهواء بعض القادة للتغلب على شعوب ومجتمعات أخرى، وبناء أمجاد تاريخية وهمية لا يمكنها الصمود أمام تطلعات الشعوب في الحرية والكرامة والسيادة.
ولعل رفع إردوغان إشارة «رابعة» أمام برلمان بلاده وهو يعلن قرار إرسال جيشه لغزو ليبيا، ودعم حكومة تخضع لنفوذ إخواني بارز، يثبت أن الرجل لم يفارق بعد طموحات التنظيم الدولي لـ«الإخوان المسلمين» في هدم استقرار شمال أفريقيا، والعبث بتاريخها ومواردها، والأهم الضغط بصورة مباشرة على مصر حكومة وشعباً وسياسة ومواقف.
والظاهر أن الإيمان بإمكانية استنساخ التاريخ البعيد مرة أخرى، قد تمكن من إدراك النخبة التركية الحاكمة بشدة، وبات يمثل جرس إنذار لكل المعنيين بالحفاظ على الدولة الوطنية ومؤسساتها الفاعلة، ومجتمعها القادر على حماية هويته ضد الغزاة والحالمين بالسيطرة عليه، سواء الذين كانوا تابعين للسلطنة العثمانية في جزء من تاريخهم، أو هؤلاء المعنيون أساساً بإصلاح النظام الدولي ومؤسساته. كلا الصنفين مطالب بالتوحد والعمل معاً لردع أفكار استنساخ الإمبراطورية العثمانية، لما فيها من فوضى، وضياع الحقوق والعبث بالمعاهدات الدولية.
هذا الإدراك عبر عنه من قبل الرئيس إردوغان مرات كثيرة، كان من بينها ما قاله أمام أعضاء حزبه «العدالة التنمية» من أن حكومته تخطط لما بعد عام 2022، والذي يعد نهاية معاهدة 1923 التي أنشأت تركيا في صورتها وحدودها الحالية، والتحرر من قيودها التي فرضت عليها، لا سيما التنقيب عن النفط، والتحكم في مضيق البوسفور، والمطالبة بتعديل حدودها لتتوافق مع خريطة الدولة العثمانية قبل سقوطها. وبالفعل أصدر بعض الحقوقيين الأتراك دراسات تؤكد من وجهة نظرهم حق بلادهم في المطالبة بإرثها القديم من الأراضي التي خضعت للدولة العثمانية، باعتبار أن مدة المعاهدة كانت 99 عاماً فقط، وبعد تجاوز تلك المدة تنتهي كل القيود.
وإذا كان الرئيس إردوغان يرى أحقيته في حماية من لهم أصول تركية، وهم الآن مواطنون في دولة أخرى يتمتعون بالمساواة، وكأن هذه الدولة غير موجودة بالأساس، فمثل هذا المنطق يعيدنا إلى تذكر الدعوات الشوفينية والاستعلائية ومبادئ التفوق العرقي، والحق المطلق في الهيمنة على الغير، والتي تبناها قادة مثل هتلر وموسوليني، وتسببت في حروب ودمار ومعاناة للبشرية بأسرها لسنوات طويلة، كما تدلان على ذلك الحربان العالميتان، الأولى والثانية، وفي النهاية فقد هؤلاء القادة المهووسون بالعظمة واحتقار الآخرين حياتهم دون أن يحققوا شيئاً من مغامراتهم البائسة؛ اللهم إلا تدمير أوطانهم وخضوعها للاحتلال والمهانة. ويبدو أن النخبة التركية الراهنة لم تطلع بعد على مثل هذه الخبرات الدامية.
والشيء بالشيء يذكر، ففي البلدان التي خضعت للسلطنة العثمانية، يمكنها الادعاء بالزعم ذاته، وأن تطالب بحماية سكان تركيا من أصول مصرية أو سورية أو حجازية أو مغاربية، وهم الجدود الذين أجبروا على الانتقال للعيش في إسطنبول ومدن تركية، لغرض الاستفادة من مهاراتهم لتطوير الحياة العثمانية، ومنع التطور عن بلادهم الأصلية.
الحقائق التاريخية دامغة في هذا السياق، فبعد أن احتل جنود سليم الأول مصر بعد معركة الريدانية 1517، وإنهاء حكم المماليك، أمر بعد فترة وجيزة بجلب 2000 من أمهر الحرفيين والعمال المصريين، ونقلهم إلى إسطنبول للاستفادة منهم في مشروعات الدولة العثمانية. ومعروف أن هناك سوقاً شهيرة تعرف بسوق المصريين في وسط إسطنبول، تكاد تكون نسخة طبق الأصل من سوق العقادين في منطقة الأزهر بالقاهرة الفاطمية. وبالتالي ووفق المنطق الإردوغاني، يحق لمصر أن تطالب بحماية أحفاد هؤلاء المصريين في الداخل التركي، كما يحق لها أن تعمل ما تستطيع لكي توفر الحماية والأمان للمصريين الذين يصل عددهم إلى نحو مليوني مصري أسهموا في تنمية ليبيا في العقود الخمسة الماضية، ومنهم من تزوج من ليبيات، وعاش وما زال هناك هو وأسرته.
هذه الادعاءات الإردوغانية البائسة، إن تمسكت بها الدول في عالمنا المعاصر فلن يهنأ أحد بيوم واحد من السلام أو حُسن الجوار. ولن يكون بمقدور أصحاب الحقوق المعاصرة أن يدافعوا عن حقوقهم، كالأشقاء الفلسطينيين الذين يواجهون ادعاءات الحركة الصهيونية وأكاذيبها، بشأن ما يرونه حقوق اليهود في كل أرض فلسطين لأنهم عاشوا فيها قبل ثلاثة آلاف عام.
إن استدعاء لحظات وملابسات معينة من التاريخ، وتوظيفها لتحقيق مصالح وأهداف آنية تستند إلى نزعات استعمارية، ليس من الحكمة في شيء.

الشرق الأوسط: الثلاثاء 31/12/2019