الأمم المتحدة التي تريدها القوى العظمى أم التي يحتاج إليها العالم؟

الإثنين،14 أيلول(سبتمبر)،2020

الأمم المتحدة التي تريدها القوى العظمى أم التي يحتاج إليها العالم؟

في هذا الخريف، تكمل الأمم المتحدة عامها الـ٧٥، ولو كان هذا العام عاديا، لاجتمع عديد من قادة العالم في مدينة نيويورك لكي يحتفلوا بهذا الحدث المهم، ويفتتحوا الاجتماع السنوي للجمعية العامة.
لكن هذا العام ليس عاديا، فلن يُعقد أي اجتماع بسبب جائحة فيروس كورونا، حتى لو حدث ذلك، فلا يوجد ما يدعو إلى الاحتفال، فقد أخفقت الأمم المتحدة بدرجة كبيرة في تحقيق أهدافها المتمثلة في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وتنمية العلاقات الودية بين الأمم، وتحقيق التعاون الدولي في حل المشكلات الدولية. بحسب ما يرصده ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، وهو مؤلف كتاب “العالم: مقدمة موجزة”.
تُسهم الجائحة في توضيح سبب هذا الإخفاق، حيث نأى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهو العنصر الأكثر أهمية في منظومة الأمم المتحدة، بنفسه بعيدا عن المشكلة إلى حد كبير، وعرقلت الصين أي دور مهم للهيئة التنفيذية التابعة للأمم المتحدة خشية تعرضها للانتقاد بسبب سوء تعاملها مع تفشي المرض في مراحله المبكرة وتحميلها مسؤولية العواقب، في الوقت ذاته تساهلت منظمة الصحة العالمية مع الصين في وقت مبكر، ثم ازدادت ضعفا بسبب قرار الولايات المتحدة الانسحاب منها. في النهاية، أفضى كل ذلك إلى خلاصة مفادها أن القوى العظمى تحصل على الأمم المتحدة التي تريدها، وليست تلك التي يحتاج إليها العالم.
كل هذا ليس جديدا، فخلال عقود الحرب الباردة الأربعة، أصبحت الأمم المتحدة محفلا للتنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. في الواقع، لا يرجع السبب في عدم تحول الحرب الباردة إلى حرب ساخنة “كما حدث في منافسات القوى العظمى مرتين من قبل في القرن الـ٢٠” إلى جهود الأمم المتحدة بقدر ما يرجع إلى أساليب الردع النووي وتوازن القوى، التي فرضت درجة عالية من الحذر في السلوكين الأمريكي والسوفياتي. حتى في المناسبة الرئيسة التي تدخلت الأمم المتحدة فيها للحفاظ على السلام الدولي – تخصيص قوة دولية لصد العدوان الكوري الشمالي ضد كوريا الجنوبية – لم تتمكن من القيام بذلك إلا لأن الاتحاد السوفياتي كان يقاطعها.
عُلقت آمال كبيرة على الأمم المتحدة في الاضطلاع بدور أكبر في أعقاب الحرب الباردة، وبدا أن المتفائلين كانوا على حق في عام ١٩٩٠، عندما اجتمعت دول العالم من خلال الأمم المتحدة لمقاومة غزو صدام حسين للكويت، وصده في نهاية المطاف.
مع الأسف، أثبتت حرب الخليج أنها استثناء القاعدة، إذ كانت الحرب الباردة انتهت للتو، وكانت العلاقات بين الولايات المتحدة وكل من الصين والاتحاد السوفياتي جيدة نسبيا، ولم يكن المجتمع الدولي يضمر كثيرا من الحب للديكتاتور العراقي، الذي انتهك عدوانه القاعدة الدولية الأساسية التي تقضي بعدم تغيير الحدود بالقوة، وكان هدف التحالف الذي باركته الأمم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة محدودا ومحافظا: طرد القوات العراقية، وإعادة الوضع الراهن في الكويت، وليس تغيير النظام في العراق.
لا يمكن أن تتكرر مثل هذه الظروف بسهولة، فقد تدهورت العلاقات بين القوى الكبرى بشكل ملحوظ، وخرجت الأمم المتحدة تدريجيا من المشهد، حيث منعت روسيا “التي ورثت مقعد الاتحاد السوفياتي في مجلس الأمن” العمل الموحد لوقف إراقة الدماء في البلقان، ودفع نقص الدعم الدولي إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، إلى تخطي الأمم المتحدة عندما خاضت الحرب مع العراق في عام ٢٠٠٣، وحالت معارضة روسيا دون أي تحرك للأمم المتحدة عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم بشكل غير قانوني في عام ٢٠١٤.
أضف إلى ذلك فشل الأمم المتحدة في تجنب وقوع الإبادة الجماعية في رواندا عام ١٩٩٤، وبعد عقد من الزمان، تعهدت الجمعية العامة بعدم السماح بحدوث ذلك مرة أخرى، وأعلنت أن العالم يتحمل مسؤولية الحماية، أو التدخل، عندما تكون الحكومات غير قادرة، أو غير راغبة، في حماية مواطنيها من أعمال العنف الواسعة النطاق.
قوبل هذا المبدأ بالتجاهل في معظم الأحيان، حيث ظل العالم مكتوف الأيدي وسط صراعات مروعة أودت بحياة مئات الآلاف من المدنيين في سورية واليمن. وفي المرة الوحيدة التي استُشهد فيها بهذا المبدأ في ليبيا عام ٢٠١١، فقد مصداقيته لأن التحالف الذي يقوده الناتو، الذي يعمل تحت راية هذا المبدأ، ذهب إلى أبعد مما دعا إليه، بإزاحة الحكومة القائمة، ثم فشل في استكمال ما بدأه، الأمر الذي خلف فراغا في السلطة تعانيه البلاد حتى اليوم.
هذا لا يعني أن الأمم المتحدة بلا قيمة، فهي توفر منصة مثمرة لإجراء المناقشات بين الحكومات، سواء كان ذلك لتجنب أزمة أو تهدئتها، كما عززت وكالات الأمم المتحدة سبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وسهلت إجراءات تراوح بين الاتصالات السلكية واللاسلكية ومراقبة المرافق النووية، وساعدت بعثات حفظ السلام في الحفاظ على النظام والأمن في عديد من الدول.
لكن في عموم الأمر، خيبت الأمم المتحدة كثيرا من الآمال، ويرجع ذلك إلى التنافس بين القوى العظمى وإحجام الدول الأعضاء عن التنازل عن حرية التصرف، كما زادت أوجه قصور المنظمة من سوء الوضع: نظام محسوبية يضع كثيرا من الأشخاص في مناصب مهمة لأسباب لا علاقة لها بالكفاءة، ويسوده النفاق وغياب والمساءلة “مثلما يحدث عندما تجلس دول تتجاهل حقوق الإنسان على مقاعد هيئة تابعة للأمم المتحدة تهدف في الأساس إلى الدفاع عنها”.
الحق أن إصلاح الأمم المتحدة جوهريا ليس خيارا واقعيا، لأن التغييرات المحتملة، مثل إعادة تشكيل مجلس الأمن ليعكس توزيع القوى في عالم اليوم، من شأنها أن تعمل لمصلحة بعض الدول وتضر بدول أخرى، لذلك ليس من المستغرب أن أولئك المعرضين للخسارة من الممكن أن يعترضوا طريق أي تغيير من هذا القبيل، وهذا يحدث بالفعل.
من ناحية أخرى، تفتقر الجمعية العامة، وهي أكثر منظمات الأمم المتحدة ديمقراطية وتمثيلا، إلى التأثير وتصبح دون جدوى طالما تحظى كل دولة بصوت واحد، بغض النظر عن حجمها، أو عدد سكانها، أو ثروتها أو قوتها العسكرية.
ما يجعل من هذا الوضع أزمة هو أننا في حاجة ملحة إلى التعاون الدولي، فنحن الآن لا نواجه عودة التنافسية بين القوى العظمى فحسب، لكننا نواجه أيضا تحديات عالمية متعددة، من الجوائح وتغير المناخ إلى انتشار الأسلحة النووية والإرهاب، وهي تحديات لا يمكن أن نتصدى لها بحلول أحادية الجانب.
الخبر السار هو أن الدول قادرة على إيجاد بدائل، مثل مجموعة السبع ومجموعة العشرين، عندما تكون الأمم المتحدة قاصرة عن تحقيق أهدافها، حيث يمكن لتحالفات بين الأطراف المعنية، والراغبة، والقادرة، أن تجتمع معا لمواجهة تحديات إقليمية وعالمية محددة. ونحن نرى بالفعل أمثلة لذلك في السياسة التجارية واتفاقيات الحد من التسلح، وقد نراها أيضا في إطار العمل المناخي وفي وضع معايير للسلوك في الفضاء الإلكتروني. فلا شك أن الحاجة إلى مصلحة التعددية والحوكمة العالمية باتت أقوى من أي وقت مضى، لكن في جميع الأحوال، سيتحتم تحقيق ذلك إلى حد بعيد خارج نطاق الأمم المتحدة.

المصدر: “الاقتصادية” السعودية