إعادة رسم الأولويات
عبدالله السعدون
اتخذ من العام ٢٠٢٠ موعد انطلاق حتى يسهل حفظ تاريخ حدوثه، يعلم أنه سيكون علامة فارقة في القرن الواحد والعشرين، وفي عالم مشحون بكل أنواع الصراع والحروب وسباق التسلح، جاء ليذكر قادة العالم وشعوبها أن أولوياتهم بحاجة إلى مراجعة، وأن صحة شعوبهم ومنظوماتهم الصحية أهم بكثير من كل ما في مخازنهم من أسلحة، وأن الأبحاث الطبية أهم من معامل ومختبرات صناعة المزيد من الأسلحة وتطويرها. تسلل على حين غفلة، أفلت من مخبئه ليعطي العالم دروساً عملية عن مدى خطورة ما يقوم به الإنسان من حماقات وتعديات على كل ما حوله وضد نفسه وضد البيئة، دول عظمى تجوب أساطيلها وحاملات طائراتها بحار العالم وعلى أهبة الاستعداد لضرب أهدافها، دول ضاقت مخازن أسلحتها بالكثير من أنواع الأسلحة الفتاكة من نووية وكيميائية وبيولوجية وتقليدية، معامل أبحاث وتطوير تعمل ليل نهار وتكلف عشرات المليارات لإنتاج المزيد من أسلحة التدمير، لكن كل هذه الدول وقواتها وقفت مشلولة أمام عدو صامت ومتناهي الصغر، لديه قدرة عالية على التخفي والانتقال مع الإنسان من مكان لآخر ومن بلد لآخر، وحتى حاملات الطائرات في أعالي البحار عرف الطريق إليها.
هذا العدو المتناهي الصغر أفزع العالم وجعل الدول جزراً معزولة والحدود مغلقة، والأجواء خالية من آلاف الطائرات التي توقفت محركاتها وضاقت بها مواقف الطائرات في مطاراتها.
جاءت الجائحة لتثبت للعالم عملياً أن الوقاية من الأمراض أكثر فاعلية وأقل تكلفة من انتظار المريض على أبواب المستشفيات، ولتقول لكل فرد على هذه البسيطة: إن الجوع والفقر والمرض هي الأعداء الحقيقيون للإنسان، وأن التلوث بكل أنواعه هو القاتل الخفي الذي اختنقت بسببه المدن وتلوثت البحار وذابت الجبال الجليدية في القطبين، وإلى اليوم يواصل الإنسان عبثه في بيئة لم تعد تحتمل المزيد، فآلاف الأحياء الحيوانية والنباتية في البر والبحر مهددة بالانقراض.
هذه الجائحة وضحت أهمية الأمن الغذائي وأظهرت أن الفلاح في حقله لا يقل أهمية عن الطبيب في عيادته والجندي في خندقه، وأن الوطن بحاجة إلى كل أبنائه، كل في مجاله وتخصصه.
دروس كثيرة لقنها هذا الكائن الغريب لكل أصحاب القرار في العالم، وليقول لهم: عليكم أن تعيدوا النظر في أولوياتكم، وما هي أفضل الوسائل للعيش بسلام على هذه البسيطة، كان يحاول أن يوصل أكثر من رسالة وعلى طريقته الخاصة، وأعتقد أنه أوجزها بما يأتي:
أولاً- أثبت الوباء للعالم أن لصحة الإنسان الأولوية على ما عداها، ومن أجلها أوقفت معظم الأنشطة والأعمال رغم تأثيرها الكبير على الاقتصاد، ولزم الناس بيوتهم رغم ما يعنيه ذلك من توقف مصالحهم، وعزفوا عن كل وسائل الترفيه والسفر والسياحة، وقد أثبت الوباء أن أهم وأفضل برامج الصحة هو إجراءات الوقاية المبكرة، وأن الدول التي تأخرت في إجراءات الوقاية دفعت الثمن غالياً بالمزيد من الوفيات وتكدس المرضى في المستشفيات، وهذا يعني بكل بساطة أنه لو تم التركيز على جانب الوقاية في كل ما يهدد صحتنا، ومعالجة أسباب الأمراض الشائعة لأخلينا المستشفيات من معظم مرتاديها ووفرنا الكثير من الجهد والمال وما يصاحب الأمراض من معاناة وآلام.
ثانياً- الحل الأمثل لما يواجه الأوطان من تحديات كالبطالة والفقر والجهل والمرض هو الاعتراف بوجودها، وهي الخطوة الأولى والأهم، ومن ثم معرفة أسبابها والتي على رأسها الفساد بأنواعه، والخطوة الثانية هي مواجهتها بطرق علمية من قبل كل الجهات المعنية، ليعمل الجميع بتنسيق وتناغم وتكامل، فلا شيء كتوحيد الجهود لتذليل الصعاب وتخطي العقبات الإدارية والمالية، كما حصل في مواجهة هذا الوباء من قبل حكومة المملكة.
ثالثاً- السلام هو مطلب جميع شعوب العالم، ومن أجله وجدت منظمة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات التي تسعى لنشر العلم ومكافحة الأمراض ومساعدة الدول الأقل نمواً، لقد أثبت هذا الوباء أن الدول لا يمكن أن تعيش منغلقة على نفسها، بل إن الانغلاق يعني الاندثار والتلاشي، وأن الانفتاح في ظل السلام والمصالح المشتركة هو الخيار الأفضل، لذا يجب أن يكون السلام جزءاً من ثقافتنا يتعلمه الطفل في رياض الأطفال ويستمر معه حتى السنوات الأخيرة من تعليمه الجامعي، علينا أن نرفض كل أيديولوجيا تحث على الطائفية أو المذهبية وكل دولة تقف خلفها، وكل من يعارض السلام ويحث على الكراهية ويؤجج الصراع الطائفي والديني.
ربّ ضارة نافعة مثل ينطبق على هذا الوباء القاتل، سيكون نافعاً لكل دولة تستنفر مؤسساتها وجامعاتها لتستنبط الدروس والعبر، وتعيد ترتيب أولوياتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية ثم تراجع أوجه الصرف من الميزانية، والأهم وضع الخطط المثلى لمواجهة الأزمات والاستعداد لها مبكرا.
المصدر: العربية نت